البــــــاب الرابـــــــــع
في مقام الإحسان وما يتعلق به من المنـازل والأذكار والمقاصد والثمرات وغير ذلك
اعلم جعلني الله وإياك ممن [ شملته ] المواهب الإحسانية ، وعمته السعادة الربانية ، أن مقام الإحسان جامع نهايات [ منازل ] السالكين ، ومتضمن حقائق العارفين . فأوله يعرب عن القبول ، وغايته توذن بالوصول ، يفهم ذلك من حديث جبريل في قول النبي مخبرا عن الإحسان : " أن تعبد الله كأنك تراه". ولا غاية فوق رؤية الله تعالى ، ولا تدرك إلا بالقيام بوظائف الدين على أكمل أحوالها ، وأجمل أمورها ، وأحسن أصولها وفروعها. ومن رام ذلك بغير هذا، فقد خاب سعيه وضل مرماه وحصل في مهواة المكر (والمقت) .
فإن قلت: كيف كمال وظائف الدين وجمال أمورها وحسن أصولها وفروعها؟
فالجواب : أن أعمال الدين على قسمين : ظاهر وباطن .
فأما الظاهر ، فأعمال الجوارح وتحسينها وتكميلها (و) الإتيان بها على أكمل الوجوه التي حافظ النبي عليها ، وإيرادها موارد الجمال السني ، لأن الغلو كالتقصير ، لما فيه من الانحراف عن مهيع افعاله النبوية العدلة .
وأما الباطن ، فأعمال القلب ، وتحسينها إخلاص الوجهة بها إلى الله تعـالى [ بمراقبته] ( خلية ) من الأوهام طاهرة من جميع الخطرات ، ( متنزهة ) عن الالتفات لشيء غير الله تعالى . وذلك [ على ] مراتب : بدايتها ( على) ما تقتضيه المراقبة ، وتمكينها (على ) ما تقتضيه المشاهدة وغايتها (على ) ما تقتضيه المعرفة ، إلى مالا غاية له .
فأشار صلوات الله وسلامه عليه في أخباره عن الإحسان أولا إلى غايته التي لا نهاية لها ، ثم عطف بالإشارة إلى بدايته ( بقوله ) : "فإن لم تكن تراه فإنه يراك" يعني المراقبة ، كأنه يقول : عمدة الإحسان المشاهدة ، (وإن) لم يقو على ذلك فالمراقبة ، فالمقصود من الإحسان ما يرجع إلى تصفية الروح من آثار الأوهـام ليحصــل بـــذلك ( على ) نهاية التوحيد . وهذا المقام يعم جميع وظائف سائر المقامات . ولا شك أن بداية التوحيد أصل في كمال بداية وظائف الدين ، ونهايته أصل في كمال نهايتها .
فإذا تقرر هذا فاعلم أن الإحسان قائم من ثلاثة منازل : بداية وهي المراقبة ، وتمكين و[هو] المشاهدة ، ونهاية وهي المعرفة.
فإن قلت : المفهوم من الحديث أن الإحسان مراقبة ومشاهدة . فمن أين جاء القسم الثالث ؟ .
فالجواب أن الحديث أشار إلى المقدمتين ، وسكت عن النتيجة ، لحصولها بالمعنى. ولا شك أن المراقبة إذا حصلت، وقام معناها بالروح أتم قيام [استلزمت المشاهدة . فإذا حصلت المشاهدة ، وقام معناها بالروح أتم قيام ] حصلت المعرفة ، فاشار الحديث إلى ما تحصل به المعرفة وهي المراقبة