وما أن أتمّ سعد كلامه حتى هلهلت امرأة من الطرف الآخر وهي تقول: مرحباً بك يا سيدنا لا فضَّ اللّه فاك.
والتفت القوم كلهم اليها، وبدت عليهم الفرحة، هذه هي النساء والرجال تشدُّ أزر رسولها في عزيمته، والبشرى تطفح على وجوههم، والإيمان يقوي نفوسهم، ويدور همس بين القوم من المستبشرة؟ إنها (ام عمارة) يا رسول اللّه، ومعها لمة من نساء الأنصار يعرضن أنفسهن للنصرة.
جزاهن اللّه خيراً فليرجعن الى أخبيتهن، ففي الرجال الكفاية.
لقد اندفع أصحاب النبي الى الاستعداد، فقد بلغ الأمر أن يتنازع الأب والابن على الخروج، يقول القائلون: تنازع سعد بن خيثمة مع أبيه أيهما يبقى مع النساء، فقال سعد لأبيه: إنه لو كان غير الجنة آثرتك به، إني لأرجو الشهادة في وجهي هذا، فقال خيثمة: آثرني وقرّ مع نسائك، فأبى سعد، فقال خيثمة: إنه لا بد لأحدنا من أن يقيم فاسهما، فخرج سهم سعد، فقتل ببدر.
ويتحدث المتحدثون - أيضاً -: ان عمير بن ابي وقاص كان صغيراً، فأخذ يتوارى عندما استعرض رسول اللّه أصحابه فقيل له لماذا تعمل هكذا يا عمير؟ فقال: أخاف أن يراني رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فيستصغرني، فيردني، وأنا احب الخروج، لعل اللّه يرزقني الشهادة. فعرض على رسول اللّه (صلى الله عليه و آله) فاستصغره فقال له: ارجع، فبكى عمير، فأجازه. وكان يقصر له حمائل سيفه لصغره، فقتل ببدر وهو ابن ست عشرة سنة.
وأعلن الرسول ساعة الرحيل في صباح لم تشرق فيه الشمس بعد من أيام رمضان في السنة الثانية للهجرة، وعددهم لم يتجاوز الثلاثمائة وخمسة أشخاص.
قد ملكوا من الإبل سبعين بعيراً، وكانوا يتعاقبونها، حتى رسول اللّه، فقد أردف خلفه علي بن ابي طالب، وزيد بن حارثة وذكر ان المقداد كان فارساً.
وكانت راية المهاجرين بيد علي بن ابي طالب، وراية الأنصار - من الأوس والخزرج - مع سعد بن معاذ.
وبعد قليل صاح رسول اللّه بأعلى صوته: (سيروا وأبشروا فإن اللّه تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين واللّه لكأني الآن أنظر الى مصارع القوم).
وعلى جانبي الطريق وقفت نساء المهاجرين والأنصار يودعن الركب الراحل بقلوب مفعمة بالإيمان والإجلال، وزغردات تبشر بالنصر والمجد.
ولم تمضِ أيام حتى تقابل الطرفان يستقبلان الحرب ورفع رسول اللّه يديه إلى السماء قائلاً: (اللهم إنك أنزلت عليَّ الكتاب، وأمرتني بالقتال، ووعدتني إحدى الطائفتين وأنت لا تخلف الميعاد، اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تخاذل وتكذب رسولك. اللهم نصرك الذي وعدتني به).
ودارت رحى الحرب سجالاً يجول إمام المسلمين علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب وغيرهما من أبطال المسلمين الأشاوس يكشفون الغبرة عن وجه المسلمين، ويجندلون الأبطال من المشركين، وكانوا يكرون على الأعداء وعلي يصيح، وهو يضرب بطلاً من أبطالهم، خذها وأنا ابن أبي طالب، فيجيبه حمزة، وهو يشد على الفارس منهم ويجندله، ويصيح : خذها وأنا ابن عبد المطلب، وهكذا بقية المغاوير.
وما هي إلا فترة من الزمن حتى وضعت الحرب أوزارها وانتصر المسلمون ولاقى من المشركين حتفه كل من أبي جهل وأمية بن حلف، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة، وغيرهم من قادة المشركين.
وانهزمت قريش شر هزيمة، حتى نقل عن عبد اللّه بن عمرو بن أمية قال: أخبرني من انكشف من قريش يومئذ منهزماً وإنه ليقول في نفسه : ما رأيت مثل هذا فر منه إلا النساء.
وقال آخر : شهدت مع المشركين بدراً، واني لأنظر إلى قلة أصحاب محمد في عيني، وكثرة من معنا من الخيل والرّجل فانهزمت فيمن انهزم فلقد رأيتني، وإني لأنظر إلى المشركين في كل وجه، واني لأقول في نفسي ما رأيت مثل هذا الأمر فر منه إلا النساء..
وطوت المعركة أنفاس عتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة وأبي جهل، وأمية بن خلف وأمثال هؤلاء الطواغيت، ولكن أبا سفيان لم يخمد، وهو رأس الفتنة، وزعيمهم.
وجنَّ الليل، وقد هدأت الأنفاس المتعبة من ثقل الحرب وهوَّمت العيون، التي أرهقت من يوم عسير الحركة، دامي الوجه.. فخرج رسول اللّه، ومن خلفه من اصحابه يحرسونه منهم علي، والمقداد، ووقف على البئر - الذي أمر فطرح به جثث المشركين - وقال: (يا اهل القليب، يا عُتبة بن ربيعة، ويا شيبة بن ربيعة ويا امية بن خلف، ويا ابا جهل، - ثم أتى بأسماء بعض من كان منهم في القليب - : هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً.. يا اهل القليب، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني، وصدقني الناس، وأخرجتموني وآواني الناس، وقاتلتموني ونصرني الناس، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً؟).
فقال المسلمون : يا رسول اللّه، أتنادي قوماً قد أجيفوا قال: (ما أنتم بأسمع لما اقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون ان يجيبوني).
وعاد المسلمون الى المدينة والنصر يرفرف عليهم، ولكن الأيام لم تدع المسلمين في راحة. فقريش لم تنم على ضيم، وبقيت تلاحق النبي كلما ساعدتها ظروفها من غزوة الى اخرى، والمقداد الذي اخلص لنبيه، وآمن بدعوته، كان لساناً صادقاً له، وسيفاً مخلصاً في وجه أعدائه، لم تمنعه مانعة عن مصاحبة نبيه في غزواته ولا تقاعس عن نصرته لحظة ما.
وآخى الرسول (صلى الله عليه و آله) بين المقداد، وبين عبد اللّه بن رواحة وقيل بينه وبين ابي ذر الغفاري..
وكان موقفه المشرف يتجلى مع علي بن ابي طالب بعد وفاة الرسول، فقد وفى له، يخوض غمار الموت دونه، ويدفع عنه الأخطار ما استطاع، وشهد فتح مصر ولم يتخلف عن واجبه الديني، فهو جندي في ساحة الميدان، وموجّه في مضمار الدعوة وأمين على الدعوة يوم تزعزع الناس.
رحم اللّه المقداد، فقد كان من الفضلاء النجباء، الكبار الأخيار من اصحاب النبي (صلى الله عليه و آله) وممن رعاهم بعنايته، حتى روي عنه انه قال أكثر من مرة: (أمرني ربي يحب اربعة، وأخبرني انه سبحانه يحبهم وهم: علي، وابو ذر، والمقداد، وسلمان).
وفي عام 33 لبى نداء ربه في ارضه بالجرف، وحمل الى المدينة فدفن بها وكان ابن سبعين.
وإذا مرَّت هذه السنين الطوال على وفاة المقداد، فله في أفكار المسلمين ذكرى عطرة، وصفحة مشرقة تمتد مع الأيام وشروق الاسلام.
هوامش:
1- برك الغماد: موضع بناحية اليمن، ويقال: هو أقصى هجر.